كتب زيد سالم:
على الرغم من صدور قرار لوزارة الداخلية في العراق، قبل ثلاثة أعوام، يقضي بتجريم كلّ من يكتب تهديدات على الجدران من قبيل "مطلوب دم"، فإنّ ذلك لم يردع عشائر عدّة ومتستّرين بها من توعّد المواطنين.
مع انهيار مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والقانونية، على أثر الغزو الأميركي للعراق، شاعت في جنوب البلاد التهديدات العشائرية وظواهر الدكة والفصول المالية التي تسبّبت في وقوع عدد كبير من الضحايا، وأحياناً بسبب التداخل العشائري ودخول الفصائل المسلحة والسلاح على خط الاشتباك بين الأطراف المتخاصمة، من دون تدخّل من قبل قوات الأمن التي تخشى أن تُسهتدف هي الأخرى من قبل المتنازعين عشائرياً.

وفي فبراير/ شباط من عام 2018، قرّرت وزارة الداخلية العراقية تجريم كلّ من يعمد إلى الكتابة على الجدران عبارات تحمل تهديداً لشخص أو عائلة أو جهة، وتصنيف تلك الكتابات نوعاً من أنواع الإرهاب، فيمثل المتورّط فيها أمام القضاء المختصّ بقضايا مكافحة الإرهاب في البلاد. ورأت الوزارة أنّ كل من يكتب عبارة "مطلوب دم" على جدران منازل المواطنين هو إرهابي ويُعامل على هذا الأساس، وذلك بعد اتساع هذه الظاهرة التي ترتبط بشكل رئيس في استفحال النزاعات العشائرية وضعف تطبيق القانون في عدد من مدن العراق، خصوصاً في العاصمة بغداد ومدن جنوبي البلاد. لكنّ هذا القرار لم يردع عشائر مختلفة وتابعين لها عن أداء مهام والقيام بعمليات استفزازية وتهديد المواطنين علناً، وما زالت التعقيدات تزداد أمام القضاء العراقي في تطبيق شرائعه وأحكامه ونفوذه، مع تنامي نفوذ الفصائل المسلحة من جهة وزيادة أدوار بعض العشائر ووجهائها من جهة أخرى.

وباتت عبارة "مطلوب دم" الأكثر شهرة في العراق، وهي تُكتب في العادة على أبواب المنازل والمباني بعد كل حادثة قتل عمداً أو بغير العمد، لكنّها تطوّرت لتصير إحدى وسائل الابتزاز بهدف الحصول على المال في ما يُعرف بـ"الفصل" أو "الكوامة". وباتت تُستخدم في مشكلات مختلفة، من قبيل حوادث السير والعراك بالأيدي، عدا عن تلك النزاعات المتعلقة بالأراضي والسقي والأخرى التاريخية التي قد تصل إلى فترة ما قبل احتلال العراق. فتظهر بالتالي قوة وسلطة العشائر التي تنافس في كثيرٍ من الأحيان القضاء العراقي في ما يتعلق بحلّ المشكلات والنزاعات وبشكل تصاعدي، خصوصاً في مناطق جنوب العراق ووسطه، بشكل يعمّق من أزمة الهوية المدنية التي يطالب بها الشعب العراقي والناشطون في البلاد. وعلى الرغم من أنّ القوات الأمنية والقضاء يلاحقان المتورّطين بهذه الجرائم وتراجعها الملحوظ في بغداد، فإنّ ثمّة حالات تظهر بين فترة وأخرى وتتعاظم في مدن الجنوب.
وقد ظهرت أخيراً صور على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر عبارة "مطلوب دم" مكتوبة على واجهة مصرف أهلي، بسبب مشكلات مع مديره، وأخرى على واجهة صالون تجميل للنساء، وكذلك على مولد كهرباء أهلي في إحدى مناطق بغداد الشعبية، وكذلك على واجهة مقهى. ويضطر من تمّ تهديده بهذه العبارة إلى سلوك أسهل الطرق وأكثرها أمناً وفعالية، وهي التوجّه إلى المنظومة العشائرية، فيأتي بشيخ عشيرته ويصطحب وفد رجال إلى الجهة التي هدّدته بهدف حلّ المشكلة والتي تنتهي في العادة بدفع مبالغ مالية.

ويرى بعض من الأشخاص الذين تعرّضوا لمثل هذه المواقف أنّ التوجّه إلى القضاء هدر للوقت والجهد، ولن يحمي القانون والشرطة من غيلة أو غدر المهددين. ويخبر أحد المتضررين من الموضوع، وقد رفض الكشف عن هويته، أنّه دفع مبلغ ثمانية ملايين دينار عراقي (نحو 5470 دولاراً أميركياً) لحلّ مشكلة بين أبنائه والجيران تطوّرت إلى حدّ استخدام السكاكين والطعن. يضيف: "لو قصدت القضاء والشرطة لكان أبنائي الآن قد طُعنوا أو حتى قُتلوا، رداً بالمثل، فهنا اللجوء إلى القضاء غير مجدٍ على الرغم من أنّ الشجار كان حول طاعن ومطعون وبسبب خلاف تافه، لكنّني رضخت من أجل حماية أبنائي حتى لا تتطوّر المشكلة، ودفعت المال كونهم من عشيرة قوية".
ويقول رائد في وزارة الداخلية العراقية، رفض الكشف عن اسمه، إنّ "ثمّة تراجعاً في صيغة التهديدات للمواطنين بكتابة مطلوب دم، لكنّ حالات متكررة تظهر من وقت إلى آخر وتؤدّي في كثيرٍ من الأحيان إلى سقوط قتلى وجرحى. وتعمل الوزارة بالتنسيق مع الدوائر القضائية من أجل إنهائها واتخاذ قرارات قضائية وتنفيذها عن طريق اعتقال منفّذيها". أضاف أنّ "قيادة عمليات بغداد طالبت في أكثر من مناسبة من مجلس القضاء الأعلى بتشديد العقوبة على منفذي الدكات العشائرية والتهديدات على الجدران بوصفهم أشخاصاً خطرين ومسلحين وينوون القيام بأفعال إرهابية". والدكات هي طلقات رصاص تحذيرية بالقرب من منزل الشخص المُراد محاكمته عشائرياً، وتُطلق في الهواء مع هتاف وتهديدات عند باب منزله، بمثابة تبليغ له بضرورة حضوره إلى المحاكمة العشائرية.

وتشير المصادر إلى أنّه "في بغداد، راجت في الفترة الأخيرة مكاتب الاستشارات العشائرية التي نجد فيها رجالاً يرتدون الزيّ العشائري المعروف، ويتوكلون عن أفراد يحتاجون إلى خدمات، مثل الدكة العشائرية أو تهديد آخرين وابتزازهم". تضيف المصادر نفسها أنّ "هذه المكاتب موجودة في مناطق الشعب والشعلة ومدينة الصدر والزعفرانية في بغداد، ويلجأ إليها أشخاص لديهم خلافات مع آخرين. فتوفّر هذه المكاتب فرقاً خاصة بالتهديدات تحت غطاء العشائر في مقابل مبالغ من المال".

ويقرّ المحامي ياسين العلياوي، وهو من الشعلة، بأنّ "هذه المكاتب مشكلات كثيرة وبثّت الرعب في خلال الفترات الماضية". وعن آلية عمل هذه المكاتب، يشرح  أنّ "العشائر باتت تنافس القضاء لجهة تنفيذ أحكام القصاص، من خلال المكاتب الوهمية التي تفتحها في بغداد. وتعمد هذه المكاتب إلى توفير فرق التهديدات والكتابة على الجدران والملاحقات وكذلك ضرب المنازل واستهدافها".
في سياق متصل، يوضح الخبير القانوني في العراق علي التميمي أنّ "قانون العقوبات العراقي وتحديداً المادة 430 منه، يعاقب بالسجن لمدّة سبعة أعوام كلّ من يهدد آخر بالقتل أو الاعتداء أو الإيذاء، وهذه العقوبة قاسية. لكن من يهدد بعبارة مطلوب دم عبر كتابتها على جدران الممتلكات الخاصة، فلا بدّ من أن تطبّق عليه المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب لعام 2005، لأنّ هذه العبارة تمثّل إرهاباً وتندرج من ضمن مفهوم تعريف الإرهاب الذي ينصّ على أنّه كلّ فعل يقع على فرد أو مجموعة من الأفراد أو المؤسسات ويهدف إلى إحداث الفوضى أو الرعب العام في المجتمع". يضيف أنّ "هذه الحالات تكثر في المناطق حيث يُسجَّل ضعف في تطبيق القانون، لأنّ القاعدة تقول كلّما ضعف القانون اشتدّ حكم العشائر أو الأعراف العشائرية، وهذه العادات آن لها أن تنتهي بقوة القانون".