وضعت الحربُ أوزارها، وعاد المتحاربون الى ميادينهم، منهم من كلل صدره غار النصر، ورفع فوق جواده راية الظفر، ومنهم من عاد تلاحقهُ الحسرات، ولربما تملأ حدقاته الدمعات، ولكن هذا هو حال الحرب، فلا الجميع مُنتصر، ولا الكل مغلوب.

في الديمقراطية، يتحول القتال على السلطة والحكم الى ممارسة سلمية، يتنافس فيها المتنافسون في ساحة الحوار، ويتبارزون بسيوف الكلام الحاد، ويتسابقون في مضمار البرامج، ويعملون بكل ما أوتوا من أساليب الأقناع، وفنون التأثير، ومواهب الجذب لأستقطاب قلوب الناس، فترجح كفة هذا على ذاك، ويقبل الأخير الأمر الواقع بقوة المنطق والحجة والغلبة، والأكثرية التي تجبره على ان يفكر في المرة القادمة كي يحسن اداءه ويرفع من مستويات فنونه ومعارفه، وأن يبني لنفسه حصناً منيعاً يقيه الضربات، ويؤمنه من مصارع الانتخابات الساحقة.

وأذا كانت الديمقراطية الوسيلة الأكثر حضاريةً، والاكتشاف الأهم في تاريخ الاجتماع السياسي البشري، كونها جنبت الأنسان الخوض في دم اخيه وصولاً الى التحكم والسيطرة، فأنها لابد لها أن تنمو في اطوار متعددة، وأن توضع في قوالب معدة مسبقاً، حتى لا تتحول الى فوضى، ويتحول التنافس الى نحر، والسباق الى طعان بلا هوادة.

وكي لا نبعد اكثر في التنظير للديمقراطية وفوائدها ومزاياها، فأننا نقول أنها في العراق بمثابة الحل الأقل كلفةً من غيره، والمسار الذي لا يمكن لأي عاقل ان يتجاوزه لو حاول ان يطلق للعراق حلاً، ويضع للبلاد أملاً في ان تخرج من كبواتها الطويلة، ولذا فأن الاتجاه لبناء هذه التجربة، كان الخطة الوحيدة الناجعة لحل مشكلة السلطة والحكم في بلد صعب المراس مثل العراق.

وعليه فإن تأمين مثل هذه الأجواء، وحماية مثل هذه الممارسة الخطيرة، و"فرملة" تحولها الى ساحة دامية، مهمة أساسية يجب ان يُنذر لها رجال مخلصون، وقادة يملكون من الجرأة والمسؤولية الشيء الكثير.

فخوض تجربة ديمقراطية في بلد ملتهب مثل العراق، قد تدفع بالبلاد الى المجهول، وتلقي بها في مهاوي الردى!.

لذا كنا على مدار عام تقريباً، ومنذ ان اتفقت الإرادة العراقية على اجراء اول استحقاق تشريعي مبكر، وإعادة الأمور الى الشعب مجدداً، كنا نقول لابد أن ينذر لهذه المهمة رجال بمستوى الحدث، وأن يتبع هذا التوجه، عمل على الأرض لترويض القابليات المتصارعة، وتهدئة الخواطر المتأججة، والاّ فأن القادم اعظم وافدح واكثر دمويةً لا سمح الله.

وحسناً فعل رئيس الوزراء العراقي، والقائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي، ووزيره داخليته الفريق أول الركن عثمان الغانمي، حينما خولا رجلاً من طراز رفيع في تولي مهمة أمنية استخبارية لحماية هذه الممارسة، والدفاع عن حق العراقيين في ان يبنوا نموذجهم الديمقراطي بلا خوف ولا تردد.

فانتدبوا لهذه المهمة الفريق الدكتور احمد ابو رغيف، الذي تولى مسؤولية وكالة الاستخبارات، واستطاع أن يحولها الى غرفة عمليات لا تكل ولا تمل، من أجل تأمين الانتخابات النيابية، وأن يتابع عبر شبكة استخبارية متمرسة وخبيرة قوامها 24 الف ضابط ومنتسب في هذه الوكالة الأمنية الشجاعة، مهمتها جمع كل شاردة وواردة عن ملف الأمن الانتخابي، وكيف يمكن أن يحول المناخ الايجابي الى مساحة للبناء، وأن تقلص مسببات ومفاعيل ونوابض التأزيم الى الحد الأقصى!.

نعم، فقد مضى أبو رغيف وهو يعمل بصمت، بعيداً عن الجلبة والأضواء، وراح يحيط قادته ومرؤوسيه بما يفعل، وينال الثناء من الجميع على هذا الجهد الوطني الجبار .

لقد بذل الرجل ولا يزال يبذل من حياته واستقراره الشخصي الشيء الكثير من اجل ان يمضي بالأمانة الى نهايتها، ولا يتراجع أمام حملات التخوين والتخويف والتحريف والتشهير القصدي، فالرجل ثابت ولاءً وانتماءً تماماً، فلا يتزعزع، ولا يهادن، سواء الإرهاب أو شبيهات الإرهاب، ولا يجامل الفساد، ولا تأخذه في تنفيذ القانون لومة لائم.

واليوم، حيث يقطف العراقيون ثمار عمل ابو رغيف وفريقه الكبير والمهم، وبعد أن تأكد للعراقيين ان ثمة رجالاً اشداء، لا يخشون الموت من أجل بلادهم، فيسهرون الليل ويجهدون النهار كي تصان دماؤهم، وتحفظ كرامتهم، وحيث نجحت الممارسة الانتخابية وتحولت الى عرس واسع وشاسع من مساحات الأمل والتفاؤل والمحبة، يجدر بنا أن نقول كلمة الحق في حق (أبو رغيف)، وفي حق الكاظمي الذي وثق به، ومنحه كامل الدعم والاسناد، وبحق وزير الداخلية عثمان الغانمي، الذي وفر لهذا الفريق الامني كل متطلباته.

نحن لسنا هنا في وارد مدح ابو رغيف أو الزيادة عليه في رسائل الاستحسان والتقدير التي تصله، لكنه موقف كان لزاماً علينا ان نذكر به أبداً ما دامت مسيرة الديمقراطية مستمرة وفي تطور دائم وخصب عظيم، سينبت في ارض العراق حقولاً من التسامح والمحبة والعمل الوطني.