كتب الإقتصادي والاستراتيجيي في شؤون الاستثمار جهاد الحكيّم:

ينشر بالتزامن مع صحيفة الأهرام المصرية.

لطالما كانت فكرة لبنان مرادفةً الازدهارَ والعلمَ والإبداعَ، ومَضربَ مثلٍ في عدّة ميادين. غير أنّ الانهيار الشامل الذي يشهده لبنان والذي  عَدَّه البنك الدوليّ أنّه مُتعمَّد، مُبيِّنًا أنّ الأزمة التي يمرّ بها هي من أسوأ ثلاث أزمات وأقساها منذ منتصف القرن التاسع عشر، هذا الانهيار صدم اللبنانيّين صدمةً بالغة، ممّا استدعى الغيارى على هذا البلد الجميل إلى إعادة التفكير في كيفيّة استعادة مكانته أو ما يُعرف بـ Rethinking Lebanon.
الخسائر فادحة تخطّت الحدود الجغرافيّة، فكان سقوط الليرة اللبنانيّة من أبسط تجلّياتها، وكان انهيار القطاع المصرفيّ من أخطرها، وهو إحدى ركائز الاقتصاد اللبنانيّ الثلاث، مرورًا بتصدّع القطاع الاستشفائيّ وترنّح القطاع التعليميّ. غير أنّ أبرز الخسائر هي تلك المتعلّقة بفكرة لبنان أو ما يعرف بالـ  Branding.
فها هم اللبنانيّون، من مقيمين ومنتشرين، يستشعرون ارتداد هذا التصدّع، فإذا بقدرتهم التفاوضيّة في تحصيل الأجور والمرتّبات التي تليق بإبداعهم وقدراتهم وتميّزهم تتراجع وتتهاوى، كما أنّه أصبح من الأصعب عليهم الحصول على تأشيرات سفر من أجل العمل أو التخصّص في الخارج، أو حتى من أجل السياحة.
كلّ هذه الصعوبات لم تُثنِ الشبّان اللبنانيّين عن المضيّ إلى طموحاتهم، فتدبّر بعضهم أمرهم قدر المستطاع، ولجأ بعضهم الآخر إلى الهجرة الافتراضيّة من خلال اقتصاد المعرفة، رغم المعوِّقات الجمّة الناجمة عن انقطاع الكهرباء ورداءة الإتصالات.

لم يَرق للسلطة صمود الشبّان اللبنانيّين عبر اقتصاد المعرفة والهجرة الافتراضيّة. فإذا بخدمة الإنترنت تسوء يومًا بعد يوم، وتنقطع أحيانًا بشكل كامل في عدّة مناطق، مُسهمة في تعسير مهمّة الذين آثروا الصمود والمواجهة من الداخل. ذلك بأنّ أهل السلطة في لبنان ما برحوا يُكرهون الشبّان على الهجرة. كانت الأسباب قبل الحرب متعلّقةً بالعمل في الخارج وإرسال العملات الأجنبيّة لتمويل العجز والفساد. أمّا اليوم، فإنّهم يدفعونهم إلى الهجرة من أجل التخلّص منهم كي لا يعترضوا على ممارساتهم ا لمنحرفة وسياساتهم التضليليّة.
ها هوذا الاستحقاق الرئاسيّ يطّل علينا في تشرين الأوّل 2022. فأيّ رئيس نريد؟ وأيّ لبنان نريد؟

أثبت لبنان أنّه لا يستطيع أن يبني نظامًا يحميه من التدخّلات الخارجية، ويجعله يوزّع السلطة في مرافقه الحيويّة برضى الجميع، إذ إنّ كل جماعة تريد أن تفوز بأكبر قدر من السلطة. والجماعات هذه أصبح وعيُها متشنّجًا، لاسيّما في خضوعها المذلّ لزعاماتها الإقطاعيّة والدينيّة التي تفتقر إلى حسّ المواطنة. الحقيقة أنّ كلّ جماعة لبنانيّة طوَّرت في وجدانها وعيًا مختلفًا تُدرك بواسطته مقام الإنسان والتاريخ والقيَم والتصوّرات الديموقراطية.

لذلك لا بدّ من ابتكار نظام لبنانيّ جديد برعاية الأمم المتّحدة يصون التنوّع، ويتيح لكلّ جماعة أن تعبّر عن ذاتها وخصوصيتها ضمن دائرتها الجغرافيّة، من غير أن نُغلق المناطق اللبنانيّة في منعزلات متواجهة. لم يبق سوى هذا النموذج، من بعد أن ثبت للجميع أنّ العلمانيّة يستحيل تطبيقها في لبنان على المدى القصير والمتوسّط.
أمّا أخطر الوقائع، فيعاينه المرء في تحوّل لبنان شيئًا فشيئًا إلى مخيّم لكلّ النازحين في المنطقة، ومنهم اللبنانيّون أنفسهم الذين أصبحت مُدُنهم أشبه بمخيّمات للّاجئين بسبب انهيار البنى التحتيّة الأساسيّة. لذلك ندعو الدول الغربيّة والعربيّة إلى أن تمنع، برعاية الأمم المتّحدة، مثلَ هذا التحوّل، وأن تدفع لبنان إلى استعادة دوره الرياديّ بفضل إسهامات شبّانه وشابّاته الذين يجري تهجيرهم بشكل قسريّ وممنهج من قِبل المنظومة التي تمسك بزمام الأمور.

وعليه، نريد رئيسًا شابًّا أو رئيسةً شابّةً، مستقلّا ملمًّا بالأمور الاقتصاديّة والماليّة، فضلًا عن خبرته السياسيّة الراسخة، وطنيًّا رؤيويًّا، يَسهُل تتبّعُ مسارِه وتقويم مواقفه. نريده رئيسًا يعيد لبنان إلى الحضن العربيّ ويجعله منفتحًا على المدى الغربيّ، ويعيد بناء وطنٍ بكامله يَنعم بقضاء مستقلّ يعيد الحقوق المسلوبة إلى أصحابها، وباقتصاد منتج يجذب الاستثمارات ويستطيع المنافسة وتصدير السلع والخدمات، عوضًا عن تصدير الشبّان والشابّات، كما يحدث اليوم. من المرجّح أن يخسر لبنان ما يعادل النصف مليون شخص أغلبهم من الشبّان في خلال عشر سنوات منذ بدء الأزمة. فمن سيملأ هذا الفراغ؟

 نريد رئيسًا يوقف هذا النزيف البشريّ الحادّ، ويعيد الثروات البشرية الشابّة التي يُفرَّغ لبنان منها قسرًا، وذلك من أجل النهوض بهذا الوطن الفريد واسترجاع مكانته على جميع الأصعدة. أمنيتنا أن ننتخب نحن اللبنانيّين رئيسًا يمكّننا من تحقيق أحلامنا في وطننا العزيز.